كلما
كان العبد قريباً من الله -تعالى- محباً لطاعته وعاملاً بها، كان إلى
الكمال البشري أقرب، ولما كان الأنبياء -عليهم السلام- هم أقرب الناس من
ربهم تعبداً وتألهاً وحباً وخوفاً ورجاءً، وصفهم الله بالعبودية في مواضع
مختلفة، ولهذا قال الله عن المسيح:{إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا
عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } (59) سورة الزخرف,
ولما ادعت النصارى أنه ابن الله رد الله عليهم بأعلى درجات البشرية وهي
القرب من الله والعبودية لله، وليس كما زعموا أنه ابن الله..
وكما سبق فقد وصف عباده المقربين من الملائكة الكرام بالعبودية فقال: (بل
عبادٌ مكرمون * لا يسبقونه بالقول) الآية. وقال: (لا يستكبرون عن عبادته
ولا يستحسرون).
وبين أن الاستكبار عن العبودية والطاعة لله من أرذل صفات العبيد، وأن مقام
العبادة من أشرف المقامات فقال -تعالى-:{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ
أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن
يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ
جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ
اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ
يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} (172-173)
سورة النساء. وقال:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ
الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
دَاخِرِينَ} (60) سورة غافر .
وقد وصف الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالعبودية في أعلى المقامات،
فوصفه في مقام الإسراء، وهو مقامٌ عظيم، فقال:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى
بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ
هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (1) سورة الإسراء .
ووصفه بها في مقام الوحي:{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (10) سورة النجم .
ووصفه بها في مقام الدعاء:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} (19) سورة الجن .
فهذه من أعظم المقامات فاستحق نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن يحوز الكمال البشري بالتقرب إلى الله تعالى.
وهذا الأمر مفتوح للناس إلى يوم القيامة فعلى قدر ما يحقق العبد من العبادة
يكون قدره وكماله عند الله - الكمال النسبي- فيحصل له من أنس المناجاة،
وقرب المناداة ما ضيعه كثير من البشر التائهين في دياجير الأماني والأحلام،
وبالله المستعان..
العبادة مبنية على الحب والخوف والرجاء..
ليست العبادة كما يزعمها كثير من الفلاسفة، وكما يحس بها كثير من الكسالى:
مجرد تكاليف شاقة وثقيلة على النفس، إنه لم يأت هذا المفهوم إلا بسبب البعد
عن حقيقة العبادة ومغزاها وما تهدف إليه.. إن العبادة في كل أنواعها تعني
القرب من الله، والأنس به، وحبه، ومناجاته، وكذا الخوف من التقصير في جنبه
عز وجل..
لقد تلذذ المتلذذون بالعبادة، فأعطوا الفوز والريادة، ولما اقتربت قلوبهم
وأجسامهم من الله، استشعروا أن العبادة غذاء الأرواح والأبدان. أما والله!
ما أصحبت الشريعة تكاليف شاقة إلا بعد ما تكدرت القلوب، ورانت عليها
الذنوب، فأهمل جناب علام الغيوب... (لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم)
هكذا يقول عثمان -رضي الله عنه-.
إن العبادة للعبد لا يقارنها
شيء في احتياج الأشياء إلى بعضها، فلو قارناها بالأكل في حاجة الجسم إليه
لما صحت تلك المقارنة؛ لأن بفقدان الروح والإيمان خسران الدنيا والآخرة،
وبفقدان الجسد قد لا يكون ذلك الخسران، بل كم مات من أناس جوعاً، وهم شهداء
في سبيل الله، وكم من بطون ممتلئة بأصناف المأكولات! لكن قلوبهم فارغة من
القرب والأنس بالله! فحين الموت كانت تلك النفس من أخبث النفوس!! أليس في
هذا دليل على أن حب الله والقرب منه أساس كل شيء!!
ولا بد في العبادة من اجتماع الأمور الثلاثة: الحب والخوف والرجاء، فنعبد
الله حباً له لما فطرنا عليه من الميل إليه والأنس به، ونعبد الله رجاءً في
رحمته وجنته العظيمة، ونعبد الله ونحن نخاف من إحباط أعمالنا أو الوقوع في
معصية فننال عقاب الله! فمن عبد الله بأحد هذه الأمور دون بعضها تزندق..
(من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن
عبده بالخوف وحده فهو حروري- أي خارجي-ومن عبده بالخوف و الحب و الرجاء فهو
مؤمن موحد ).وهذه العبارة وردت عن بعض السلف الصالح.
ويرجع السبب في ضرورة اجتماع الثلاث الخصال في العبد؛ أن من عبد الله
بأحدها فسوف يحصل خلل في حياته.. فإذا غلَّب العبد الخوف فإنه سيصاب باليأس
والإحباط، ولربما -والعياذ بالله- قد يكون ذلك سبباً في انحرافه.
ومن غلَّّب جانب الرجاء قاده إلى التهاون بكثير من الواجبات، وانتهاك
المحرمات، والاعتماد على رحمة الله، دون عمل بالأسباب، ولهذا لا بد من
اليقين والجمع بين المعنيين في قوله -تعالى-: (نبئ عبادي أني أنا الغفور
الرحيم * وأن عذابي هو العذابُ الأليم).
وهكذا.. فكثير من الآيات تبين ضرورة التوازن في حياة العبد، فهو يعبد الله
راجياً رحمته، ولا يعصيه؛ لأنه يخاف عقابه، ويعبده حباً له وقرباً منه عز
وجل...
العبادة والاستعانة:
جمع الله -تعالى- بين العبادة والاستعانة في أعظم سورة
هي سورة الفاتحة:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فالعبادة هي
الخضوع والذل لله -تعالى-، والاستعانة طلب العون من الله، وهذا العون إما
لجلب نفع أو دفع شر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد أرشد المسلمين إلى أن
تكون استعانتهم بالله -تعالى- فيما لا يقدر عليه إلا هو، كما قال لابن
عباس: (يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك،
إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت
على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ..)) الحديث رواه أحمد
والترمذي وقال: حسن صحيح.
ومن طلب العون من الله على قضاء الأمور, ودفع الشرور، فقد استعان بعظيم قوي قادر فعّال لما يريد، يقول للشيء كن فيكون.
والاستعانة تقتضي أن يوكل العبد أموره إلى الله؛ لأنه لا حول له ولا قوة
إلا بالله، والتوكل قد جاء مقروناً مع العبادة والإنابة في آيات كثيرة
كقوله -تعالى-:{وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ
يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (123) سورة هود وقوله:{ذَلِكُمُ اللَّهُ
رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (10) سورة الشورى
{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ
لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ
بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (30) سورة الرعد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (فهو قد جمع بين العبادة والتوكل
في عدة مواضع؛ لأن هذين يجمعان الدين كله، ولهذا قال من قال من السلف: إن
الله جمع الكتب المنزلة في القرآن، وجمع علم القرآن في المفصل، وجمع علم
المفصل في فاتحة الكتاب، وجمع علم فاتحة الكتاب في قوله: ((إياك نعبد وإياك
نستعين))، وهاتان الكلمتان هما الجامعتان اللتان للرب والعبد، كما جاء في
الحديث الصحيح الذي في (صحيح مسلم) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي
-صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (يقول الله سبحانه وتعالى: قسمت الصلاة بيني
وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبد ما سأل)، قال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-: (يقول العبد: الحمد لله رب العالمين، يقول الله:
حمدني عبدي، ويقول: الرحمن الرحيم، يقول الله: أثنى علي عبدي، ويقول: مالك
يوم الدين، يقول الله: مجدني عبدي، يقول العبد: إياك نعبد وإياك نستعين،
يقول الله: فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال:
اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا
الضالين يقول الله: فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل). فالرب سبحانه له نصف
الثناء والخير، والعبد له نصف الدعاء والطلب، وهاتان جامعتان ما للرب
سبحانه وما للعبد).1
وسبب الجمع بينهما هنا وفي غيرهما من الآيات؛ لأن العبد يطلب العون من الله
في التوفيق للعبادة والثبات عليها حتى الموت، مع أن العبادة اسم جامع تدخل
تحتها الاستعانة والتوكل؛ وأفردت في هذا المقام وذكرت مع العبادة؛ لأنها
الوسيلة والطريق الذي ينال به مقصوده ومطلوبه من العبادة.
فالعبد لا غنى له عن سيده وربه -تعالى- طرفة عين فلا هادي إلا الله، وكما
قال تعالى:{وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن
تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} (97) سورة الإسراء.
هذا ونسأل الله أن يهدينا إلى طاعته وعبادته وأن يحببها إلى قلوبنا،
ويجعلها أحب إلينا من أموالنا وأولادنا ومن كل شيء.. آمين يارب العالمين...
وسيأتي في الحلقة الرابعة - إن شاء الله- مفهوم العبادة الشامل، وأنواع
العبادة، وأخطاء في مفهوم العبادة، والعبادة لله تحرر العبد من عبودية ما
سواه...