فلاح طيب قويم الخلق، سرق اللصوص ما لديه من مخزون الغلال، ولم يسرقوا حميره، فاستخدم هذه الحمير في نقل حبوب وبذور الفلاحين إلى السوق، وفي السوق كان عليه أن يستبدل بها أطعمة وغلالا أخرى، لا بد أن يبيت حتى الصباح، وكان هناك اسطبل يملكه موظف يعمل في الديوان الملكي، أعجبته الحمير، فلفق تهمة للفلاح، بأن وضع أمامها سيقان القمح، واتهمه بالسرقة، وانهال عليه ضربا مبرحا، وقرر الفلاح أن يشكوه إلى سيده الذي هو رئيس الديوان الملكي، ووجده في طريقه إلى زورق، فاستوقفه وحكى له حكايته، وكان فصيحا بليغا، فاندهش الرجل الذي طلب من أحد الموظفين أن يتحقق من كلامه، واستمع إليه ووجده بليغا، فعاد لسيده بحديثه عن فصاحة الفلاح واستدعاه واستمع إليه، ونقل هذه الشكوى إلى الملك الذي استدعاه واستمع إليه. وأعجب به الملك، وكلما جاءه أحد من الكهنة أو النبلاء طلب من الفلاح أن يجدد شكواه، وكان الفلاح يتفنن في الشكوى، وقد احتفظ لنا التاريخ بشكاواه الثماني، وهي تحفه أدبية، وكان الملك وزواره يتعجبون لهذا الفلاح البليغ، هل هو البليغ أو أن الظلم أنطقه بالبلاغة والحكمة، وهل الظلم فصيح والعدل أخرس، وقد لاحظ الفلاح أن الملك والنبلاء يتسابقون في الاستماع إلى حكاية واحدة يرويها واحد بأشكال مختلفة، مرة يبدأ بالنهاية ومرة ينتهي بالبداية، وهو في جميع الأحوال يشيد بالعدل والخير. ويرى أنها جميعا يمكن تحقيقها إذا أراد الملك، وأن الملك قادر على العدل بإشارة من إصبعه، وأن الملك هو وحده الذي يستطيع تسكين العدل والرحمة في قصره وفي كل دواوين الحكومة!
ولم يقل لنا التاريخ ماذا حدث للفلاح الفصيح، فلم يعد أحد يتحدث عن الحمير التي سرقت ولا عن الظلم الذي وقع ولا عن رد اعتبار المواطن الغلبان الذي أهين والذي وقفت البيروقراطية المصرية كلها ضده.
وإنما دخل التاريخ بهذه البكائيات البديعة. فهو، إذن، قوس قزح لامع الألوان فوق سحاب أسود. لقد عاش الظلم البليغ ومات العدل الأصم الأبكم، لأن الدموع الحزينة لا تهم وإنما شكلها الجميل وهي تتساقط!