الله، الله، الله، ما أعذب الكلمة، الله ما أحسن الاسم، وما أجلّ المُسمَّى.
كلمة حلوة في النطق، عذبة في السمع، حبيبة إلى القلب، قريبة من النفس،
ساكنة في الوجدان، منقوشة في الفؤاد، محضورة في الضمير، ممتزجة بالدماء.
باسمه نبدأ وعليه نتوكّل وإليه نلجأ، وبعظمته نشدو، وبجلاله نشيد، وبصفاته
نترنم، وعلى نبيه نصلي ونسلم،
فهو الذي دعانا إلى الله، وعرَّفنا بالله، ودلَّنا على الله، وعلَّمنا كيف نُثني على الله، فهو القائل: "أما إن ربّك يحب الثناء"،
والقائل: "ولا أحد أحب إليه المدحة من الله".
وهل أحدٌ أحقُّ بالثناء منه؟ وهل خُلق الإنسان، وأُعطي اللسان، وعُلِّم
البيان، إلا ليُثني على الله، ويُمجِّد الله، ويُسبِّح الله، ويذْكُر الله؟
من أحق بالثناء منه؟ ومن أولى بالمدح منه؟، ومن أجدر بالتمجيد منه؟
وجاء حديثٌ لا يُملُّ سماعُه **** شهيٌّ إلينا. نشرُهُ ونظامُهُ
إذا ذكرَتْهُ النفس زال عناؤها **** وزال عن القلب الكئيب قَتامُهُ
وإنّ ثناءنا عليه، وتمجيدنا له، وإجلالنا له، ولَهجنا بذكره: نعمةٌ منه ومِنّة من منِنه، فهو الذي هدانا لذلك، ودلّنا على ما هنالك.
وهو فوق ما يثني عليه المثنون، وفوق ما يحمده الحامدون.
وما بلغ المهدْون نَحْوك مِدحةً **** وإن أطنبوا، إنّ الذي فيك أعظمُ
لك الحمد كل الحمد. لا مَبدأٌ له **** ولا منتهى. والله بالحمد أعلمُ
(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ
نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ
الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ
مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ
زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي
اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النور/ 35).
ثناؤنا عليه. زُلفا لنا لديه، وَبَوْحُنا بشيءٍ من المكنون، إنّما نرجو به نجاةً، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون.
ومن عجبٍ أنّي أحِنُّ إليهم **** وأسأل عنهم من لقيتُ وهمْ معي
وتطُلبُهم عيني وهم في سوادها **** ويشتاقُهم قلبي وهم بين أضلعي
يا الله ما أعظم الخطب!، وما أجل الموقف!، وما أصعب الأمر! الضعيف يثني على
القوي، والمخلوق يمجِّد الخالق، والفاني يبجّل الباقي، والفقير يترنم بذكر
الغني. القلب يرجف، واللسان يتعثر، والجنان يخفق، والبنان يرتعش، والكلمات
تعجز، والعبارات تُقَصِّر، والقُوى تنهار، والفكر يحار. خشيةً وإجلالاً،
وحياء من الجبار.
أُعلل قلبي في الغرامِ وأكتُمُ **** ولكنّ حالي عن هوايَ يُترجِمُ
وإن فاض دمعي قلتُ جرحٌ بمقلتي **** لئلا يَرى حالي العذولُ فيفهم
وكنتُ خليّاً لستُ أعرفُ ما الهوى **** فأصبحتُ صَبّاً والفؤادُ متيَّمُ
رفعتُ إليكُم قصّتي أشتكي بها **** غرامي ووجدي كي تجودوا وترحموا
وسطرتُها من دمع عيني لعلّها **** بما حلّ بي منكُم إليكم تُتَرجِمُ
نخط بالبنان شيئاً مما علمنا الرحمن، ونوظف البيان في رضا الواحد المنان،
إمتثالاً لأمره، واتباعاً لرسوله، وأملاً في رضاه، وطمعاً في مغفرته، وحباً
لذكره، فهو عند حسن ظن عبده به، وهو معه حيث ذكره، فإن ذكره في نفسه ذكره
الله تعالى في نفسه، وإن ذكره في ملأ ذكره الله تعالى في ملأ خير منهم، قال
تعالى: (فاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (البقرة/ 152).
وفي الحديث القدسي: "أنا عند حسن ظن عبدي بي، وأنا معه حيث ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرتُهُ في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرتُهُ في ملأٍ خيرٍ منهم".
فهو أحق من ذكر، وأحق من حمد، وأولى من شكر، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال
العبد، وكلنا له عبد، له الحمد حمداً طيباً كثيراً مباركاً، له الحمد ملء
السماوات والأرض وما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، له الحمد حتى يرضى،
وله الحمد بعد الرضى، وله الحمد عدد خلقه، وزنة عرشه، ورضا نفسه، ومداد
كلماته، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه.
لك الحمدُ طوعاً... لك الحمدُ فرْضا **** وثيقاً عميقاً... سماءً وأرضا
لك الحمدُ صَمْتاً... لك الحمدُ ذكراً **** لك الحمدُ خفْقاً حثيثاً... ونبضا
لك الحمدُ ملءَ خلايا جناني **** وكل كِياني.. رُنُوّاً وغَمْضا
إلهي وجاهي إليك اتجاهي **** وطيداً مديداً... لترضى فارْضى
فأنتَ قوامي.. وأنت إنسجامي **** مع الكونِ، والأمرُ لولاكَ فوضى
هذه همسات قلب مؤمن، ونفثاتُ فؤادٍ مْوَحِّد، هذا دعاءٌ ورجاء وثناءٌ وبكاء، وانطراحٌ ونداء، لرب الأرض والسماء.
هذه قصة التوحيد تُسطّر في قالب جديد، وروح العقيدة، يقدم في أفانين عديدة،
ومجمل إعتقاد السلف في الأسماء والصفات، توشّحت به هذه الورقات.
هذه ومضات من خلجات الروح، وأسطر من وثيقة الحب، ونفحات من معين الإجلال، وهمسات من هتاف الإيمان.
هذه عبارات حانية، وأحرف زاكية، تُسقى بماءٍ واحد، لتثني على ربٍّ ماجد،
منها ما حبّرت واجتهدتُّ، ومنها ما انتقيته من الغير واستَجَدتُّ.
هذه نفسٌ كاد يقتلها العطش بماء الوحي، وزلال الإجلال، ورحيق التوفيق، فاهتزّت وَرَبَتْ وأنبتت من كل زوج بهيج.
إذا استسقى القلب المحبُّ ربّه، واشتكى إليه فاقته،
وأظهر فقره. مرّغ جبينه في محرابه، ونثر دموعه في ساحته، سيمده بغيث
الرحمة، وسقيا المعرفة، فإنّ ضرب بعصاه الحجر انفجرت منه اثنتا عشرة عيناً
قد علم كل أناس مشربهم، عين الإخلاص، وعين الصدق، وعين الحب، وعين اليقين،
وعين التوكُّل، وعين المعرفة، وعين الرضى، وعين الصبر، وعين الأنس، وعين
الإفتقار، وعين الحياء، وعين الخوف، وسالت أدوية بقدرها.
إنني آمل أن تجد قوافل المحبين في هذا مورداً طيباً فتنهل من معينه الصافي،
وأعينه السائغة العذبة، فها أنذا قد نضحت للمحبين بدلوي، وسقيت لهم بغربي
من بئر المعرفة، وسلسبيل الهدى، وسوف أتولّى إلى الظل الوارف لهذا الدين،
وأبتهل بلسان الحال والمقال: (رَبِّ إنِّي لِمَا أنزَلتَ إليَّ مِنْ خَيْرٍ فَقيرٌ) (القصص/ 24).
وكان فؤادي خالياً قبل حبكم **** وكان بذكر الخلق يلهو ويمرح
فلما دعا قلبي هواك أجابه **** فلست أراه من فنائك يبرح
ما أعظم الفاقة وأشد الحاجة إلى ما يسكب في القلوب من عظمة علام الغيوب
سيما في مثل هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن، وعظمت المحن، وتدفق سيل
الشهوات، وكشّرت أنيابها الشبهات، أُعلنت الحرب الشعواء على الفضائل،
وصُوِّبت السهام الرعناء على المكارم.
إنّ الذي يتعرض بالثناء لملك من ملوك الدنيا ويشدو
بشيء من مناقبه أو يتلو بعضاً من محاسنه لا يخلو من العطية، ولا يعدم
الهدية، وقد يكون أكثر الثناء وجُل المديح في غير مكانه، فما بالك بمن يثني
على مالك الملك وصاحب الفضل، وواهب النعماء، وعظيم العطاء، رب السماوات
والأرض أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، لا أكرم منه جوداً، ولا أعظم
منه عطاءً، ولا أوسع منه برّاً، ولا أجل منه فضلاً.
إنّ أعظم مكافأة لمن يثني عليه أن أكرمه بأن جعل لسانه ينطق بمدحه، وبيانه
يترجم بحبه، وقلمه يسطر بديع فضله وجميل صفاته ووافر هباته، ماذا تساوي
كلمات نسطرها أو عبارات ندبجها أو صفحات نخطها عن الذي خلقنا وما نعمل،
وأوجدنا وما نصنع. العقل الذي يتفكر ويتدبر، والنفس التي تخشع وتتأثر،
والقلب الذي يؤمن ويتذكر، كلها نعمٌ من الذي خلق فقدر لو عبده المرء سنوات
عديدة ما كان ذلك مقابلاً لنعمة واحدة من نعمه عليه كالسمع أو البصر أو
العقل، لو كانت مياه البحور مداداً للكاتبين وأشجار الدنيا أقلاماً
للمدونين، ووجه الأرض ورقاً للمسطرين، ونقش عليها ثناؤهم على الله لما
أوفوه حقه من الثناء،
فهو فوق ما يصفه الواصفون، وأعظم مما يثني به عليه المثنون، فسبحانه جل في
علاه، له الشكر وله الفضل، وله الحمد، فهو رب السماوات والأرض ومن فيهنّ،
وله الحمد فهو قيّم السماوات والأرض ومن فيهنّ، وله الحمد فهو نور السماوات
والأرض ومن فيهنّ، عالم الغيب والشهادة، فاطر السماوات والأرض، ربُّ كل
شيءٍ ومليكه، فالق الحب والنوى، الأوّل فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده
شيء، الظاهر فليس فوقه شيء، والباطن فليس دونه شيء، وهو الحق ووعده الحق
وقوله الحق، واحد أحد، فرد صمد، لم يلد ولو يولد، ولم يكن له كفواً أحد.